فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا (5)}
أي إن مع الضَّيقة والشدّة {يسرا}، أي سعة وغِنى.
ثم كرر فقال: {إِنَّ مَعَ العسر يسرا}، فقال قوم: هذا التكرير تأكيد للكلام؛ كما يقال: اِرمِ اِرمِ، اِعجَلْ اعجَلْ؛ قال الله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3 4].
ونظيره في تكرار الجواب: بَلى بَلى، لا، لا.
وذلك للإطناب والمبالغة؛ قاله الفرّاء.
ومنه قول الشاعر:
هَممتُ بنفسِيَ بعضَ الهموم ** فأولَى لنفسي أولَى لها

وقال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسماً معرّفاً ثم كرّروه، فهو هو.
وإذا نكَّروه ثم كرّروه فهو غيره.
وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر؛ قاله ثعلب.
وقال ابن عباس: «يقول الله تعالى خلقت عُسْراً واحدًا، وخلقت يُسْرين، ولن يغلِب عسر يسرين».
وجاء في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه السورة أنه قال: «لن يغلِب عسر يسرين» وقال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حَجَر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين.
وكتب أبو عبيدة بن الجرّاح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم، وما يُتخوّف منهم؛ فكتب إليه عمر رضي الله عنهما: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من مَنزِل شِدّة، يجعل الله بعده فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
وقال قوم منهم الجُرْجانِيُّ: هذا قول مدخول؛ لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفاً، إن مع الفارس سيفاً، أن يكون الفارس واحدًا والسيف اثنان.
والصحيح أن يقال: إن الله بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم مُقِلاًّ مُخِفًّا، فعيره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالاً؛ فاغتم وظنّ أنهم كذبوه لفقره؛ فعزَّاه الله، وعدد نِعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: {فإنّ مع العسر يسرا} أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر؛ {فإن مع} ذلك {العسر يسرا} عاجلاً؛ أي في الدنيا.
فأنجز له ما وعده؛ فلم يمت حتى فَتَح عليه الحجاز واليمن، ووسَّع ذات يده، حتى كان يعطى الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويُعِدّ لأهله قوت سنة.
فهذا الفضل كله من أمر الدنيا؛ وإن كان خاصاً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء الله تعالى.
ثم ابتدأ فضلاً آخراً من الآخرة وفيه تأسِية وتعزِية له صلى الله عليه وسلم، فقال مبتدئاً: {إِنَّ مَعَ العسر يسرا} فهو شيء آخر.
والدليل على ابتدائه، تعرّيه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النَّسْق التي تدل على العطف.
فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه؛ أي {إن مع العسر} في الدنيا للمؤمنين {يسرا} في الآخرة لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة.
والذي في الخبر: «لن يغلب عسر يسرين» يعني العسر الواحد لن يغلبهما، وإنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا؛ فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شيء.
أو يقال: {إن مع العسر} وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة {يسرا}، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عِز وشرف.
{فَإِذَا فرغت فانصب (7) وَإِلَى رَبِّكَ فارغب (8)} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {فَإِذَا فرغت} قال ابن عباس وقتادة: فإذا فرغت من صلاتك {فانصب} أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك.
وقال ابن مسعود: إذا {فرغت} من الفرائض {فانصب} في قيام الليل.
وقال الكلبيّ: إذا فرغت من تبليغ الرسالة {فانصب} أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات.
وقال الحسن وقتادة أيضاً: إذا فرغت من جهاد عدوك، فانصب لعبادة ربك.
وعن مجاهد: {فإذا فرغت} من دنياك، {فانصب} في صلاتك.
ونحوه عن الحسن.
وقال الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق.
قال ابن العربي: ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية: {فانصب} بكسر الصاد، والهمْزُ من أوله، وقالوا: معناه: انصِب الإمام الذي تستخلفه.
وهذا باطل في القراءة، باطل في المعنى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحداً.
وقرأها بعض: الجهال {فانصب} بتشديد الباء، معناه: إذا فرغت من الجهاد، فجِدَّ في الرجوع إلى بلدك.
وهذا باطل أيضاً قراءة، لمخالفة الإجماع، لكن معناه صحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومَه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نَهْمَته، فليعجل الرجوع إلى أهله وأشدّ الناس عذاباً وأسوأهم مباء ومآبا، من أخذ معنى صحيحاً، فركب عليه مِن قِبل نفسه قراءة أو حديثاً، فيكون كاذباً على الله، كاذباً على رسوله؛ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا».
قال المهدوِيّ: وروي عن أبي جعفر المنصور: أنه قرأ: {ألم نشرحَ لك صدرك} [الشرح: 1] بفتح الحاء؛ وهو بعيد، وقد يؤوّل على تقدير النون الخفيفة، ثم أبدلت النون ألفاً في الوقف، ثم حُمِل الوصل على الوقف، ثم حذف الألف.
وأنشد عليه:
إضْربَ عنك الهمومَ طارِقَها ** ضربك بالسوط قَوْنَس الفَرسِ

أراد: اضرِبْن.
ورُوي عن أبي السَّمال {فإذا فرغت} بكسر الراء، وهي لغة فيه.
وقرئ: {فرغِّب} أي فرغب الناس إلى ما عنده.
الثانية: قال ابن العربيّ: روي عن شُريح أنه مر بقوم يلعبون يوم عِيد، فقال ما بهذا أمر الشارع.
وفيه نظر، فإن الحَبَش كانوا يلعبون بالدّرق والحراب في المسجد يوم العيد، والنبيّ صلى الله عليه وسلم ينظر.
ودخل أبو بكر في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيانِ؛ فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد» وليس يلزم الدُّؤوب على العمل، بل هو مكروه للخلق. اهـ.

.قال الألوسي:

والفاء في قوله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا} على ما في الكشاف فصيحة والكلام وعد له صلى الله عليه وسلم مسوق للتسلية والتنفيس قال كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى ذهنه الشريف عليه الصلاة والسلام أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم فذكره سبحانه ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال تعالى شأنه {إن مع العسر يسرا} كأنه قال سبحانه خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله تعالى فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا وهو ظاهر في أن أل في {العسر} للعهد وأما التنوين في {يسرا} فللتفخيم كأنه قيل إن مع العسر يسرا عظيماً وأي يسر والمراد به ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يسر الدنيا مطلقاً.
وقوله تعالى: {إِنَّ مَعَ العسر يسرا} يحتمل أن يكون تكريراً للجملة السابقة لتقرير معناها وفي النفوس وتمكينها في القلوب كما هو شأن التكرير ويحتمل أن يكون وعداً مستأنفاً وال والتنوين على ما سبق بيد أن المراد باليسر هنا ما تيسر لهم في أيام الخلفاء أو يسر الآخرة واحتمال الاستئناف هو الراجح لما علم من فضل التأسيس على التأكيد كيف وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين وأوفاهما والمقام كما تقدم مقام التسلية والتنفيس والاستئناف نحوى وتجرده عن الواو أكثر من أن يحصى ولا يحتاج إلى بيان نكتة لأنه الأصل وقال عصام الدين لا يبعد أن تكون نكتة الفصل كونه في صورة التكرير فاحفظه فإنه من البدائع وتعقب بنحو ما ذكرنا وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه إلا أنه أوثر التنكير التفخيم وقد يقال إن فائدته الظهور في التأسيس لأن النكرة المعادة ظاهرها التغاير والاشعار بالفرق بين العسر واليسر.
ويظهر مما ذكر وجه ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً مسروراً وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين {إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا}» وأفاد بعض الأجلة أن الكلام تقرير لما قبله وعدة له صلى الله عليه وسلم بتيسير كل عسير فالفاء قيل سيبية ودخلت على السبب وان تعارف دخولها على المسبب لتسبب ذكره عن ذكره فإن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر وال في {العسر} للاستغراق فيدخل فيه سبب النزول والتنوين في {يسرا} على ما سبق كأنه قيل فعلنا لك كذا وكذا لأن مع كل عسر كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر والخمول يسرا عظيماً كالشرح والوضع ورفع الذكر فلا تيأس من روح الله تعالى إذا عراك ما يغمك.
وقال بعضهم الفاء للتفريع وهو من قبيل تفريع الحكم على الدليل في صورة الاستدلال بالجزئي على الكلي وذلك كما تقول اما ترى إلى الإنسان والفرس والغنم كلها تحرك الفك الأسفل عند المضغ فاعلم بذلك إن كل حيوان يفعل كذلك فتدبر وفي الجملة الثانية الاحتمالان السابقان والاستئناف أيضاً هو الراجح لما تقدم.
وعلى اتحاد {العسر} وتعديد اليسر يكون الحاصل من الجملتين إن مع كل عسر يسرين عظيمين والظاهر أن المراد بذينك اليسرين يسر دنيوي ويسر أخروي.
وقيل الظاهر أن الجملة الثانية تكرير للأولى وتأكيد لها فاليسر فيها عين اليسر في الأولى كما أن العسر كذلك والكلام نظير قولك أن مع الفارس رمحاً أن مع الفارس رمحاً وهو ظاهر وحدة الفارس والرمح و«لن يغلب عسر يسرين» ليس نصاً في الحمل على الاستئناف إذ يصح على التأكيد أيضاً بأن يكون مبنيا علي كون التنوين في {يسرا} للتفخيم فحمل لقوة الرجاء على يسر الدارين وذلك يسران في الحقيقة ويشهد لذلك أنه ليس في مصحف ابن مسعود الجملة الثانية مع أنه جاء عنه أيضاً «لن يغلب عسر يسرين» وقيل يمكن أن يحمل الخبر على أنه لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين وتكريره في مقام الوعد وهو كما ترى والمشهور على جميع الأوجه أنه شبه التقارب بالتقارن فاستعير لفظ مع لمعنى بعد وذلك للمبالغة في معاقبة اليسر {العسر} واتصاله به واستشكل أمر الاستغراق بأن من {العسر} ما لا يعقبه يسر دنيوي كالفقر والمرض الدائمين إلى الموت ولا أراك ترضى القول بأن الموت يسر دنيوي وإن من {العسر} مالاً يعقبه يسر أخروي أيضاً كعسر الكافر.
والجواب أن الحكم بالنسبة للمؤمنين كما يقتضيه مقام التسلية والتنفيس ويشعر به ما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم قال كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدة يجمل الله تعالى بعده فرجاً ولن يغلب عسر يسرين لا يحسم الاشكال إذ يبقى معه إن من عسر المؤمن ما لا يعقبه يسر دنيوي كما هو ظاهر بل منه ما لا يعقبه بسر أخروي أيضاً وذلك كعسر المؤمن الجازع فإنه لا يثاب عليه في الآخرة والظاهر من اليسر الأخروي هو الثواب فيها على ذلك العسر وإرادة المؤمن الصابر يبقى معها إن من عسره أيضاً ما لا يعقبه اليسر الدنيوي.
وأجاب بعض على وجه التأكيد بأن الاستغراق عرفي ويكفي فيه أن {العسر} في الغالب يعقبه يسر وعلى وجه التأسيس بهذا مع كون الحكم بالنسبة للمؤمن الصابر وآخر بأن الحكم مشروط بمشيئته تعالى وإن لم تذكر قيل ويشعر بذلك ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام: «لن يغلب عسر إن شاء الله تعالى يسرين» ويفهم من كلام بعض الأفاضل أنه يجوز على وجه التأكيد أن يكون مع على ظاهرها والتنوين في {يسرا} للنوعية ولا إشكال في الاستغراق إذ لا يخلو لمرة في حال {العسر} عن نوع من اليسر وأقله دفع ما هو أعظم مما أصابه عنه ويجوز أن يكون التنوين للتفخيم أيضاً ويكون اليسر العظيم المقارن للعسر هو دفع ذلك الأعظم وما من عسر إلا وعند الله تعالى أعظم منه وأعظم وأنه لا يأبى ذلك لن يغلب عسر يسرين إما لأن المعنى لن يغلب فرد من أفراد {العسر} ذكر اليسر مرتين في مقام التسلية أو لأن الآية أفادت ان مع العسر يسرا وقد علم أن بعده آخر على ما جرت به العادة الغالبة أو فهم من قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عٌسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] إن كان نزوله متقدماً وذكر بعضهم أن المعية على حقيقتها عند الخاصة على معنى أن كل ما فعل المحبوب محبوب كما يشير إليه قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره:
وتعذيبكم عذب لدى وجوركم ** على بما يقضي الهوى لكم عدل

وقول الآخر:
زبرجا تم أزتوهرجه رسد جاي منت است ** كدناوك جفا ست وكر خنجر ستم

وتسمية ذلك عسراً لأنه في نفسه وعند العامة كذلك لا بالنسبة إلى من أصابه من المحبين المستعذبين له والكل كما ترى ثم أنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً وحياله حجر فقال عليه الصلاة والسلام: «لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله تعالى: {إن مع العسر يسرا} الخ» ولفظ الطبراني «وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {فإن مع العسر يسرا}» وإرادة العهد اسلم من القيل والقال وكأن من اختاره اختاره لذلك مع الاستئناس له بسبب النزول لكن الذي يقتضيه الظواهر ومقاماتها الخطابية الاستغراق فإذا قيل به فلابد من التقييد بكون من أصابه العسر واثقاً بالله تعالى حسن الرجاء به عز وجل منقطعاً إليه سبحانه أو بنحو ذلك من القيود فتدبر والله تعالى الميسر لكل ما يتعسر.
وقرأ ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى {العسر} و{يسرا} في الموضعين بضم السين.
{فَإِذَا فرغت} أي من عبادة كتبليغ الوحي {فانصب} فاتعب في عبادة أخرى شكراً لما عددنا عليك من النعم السالفة ووعدناك من الآلاء الآنفة كأنه عز وجل لما عدد عليه ما عدد ووعده صلى الله عليه وسلم بما وعد بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة وإن لا يخلي وقتاً من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى.
{وإلى رَبّكَ} وحده {فارغب} فاحرص بالسؤال ولا تسأل غيره تعالى فإنه القادر على الاسعاف لا غيره عز وجل وأخرج ابن جرير وغيره من طرق عن ابن عباس أنه قال أي إذا {فرغت} من لصلاة {فانصب} في الدعاء وروي نحوه عن الضحاك وقتادة وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أي إذا {فرغت} من الفرائض {فانصب} في قيام الليل وعن الحسن أي إذا {فرغت} من الغزو فاجتهد في العبادة وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم نحوه وأخرج ابن نصر وجماعة عن مجاهد أي إذا {فرغت} من أسباب نفسك وفي لقظ من دنياك فصل وفي رواية أخرى عنه نحو ما روي عن ابن عباس والأنسب حمل الآية على ما تقدم وأما قول ابن عباس ومن معه فهو تخصيص لبعض العبادات فراغاً وشغلاً اما مثالاً لا أن اللفظ خاص وهو الأظهر وكذا يقال فيما روي عن ابن مسعود واما لأن الصلاة أم العبادات البدنية والدعاء مخ العبادة فهما هما وقول الحسن فيه ما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وهو قريب إلا أنه قيل عليه أن السورة مكية والأمر بالجهاد بعد الهجرة ولعله يقول بمدنيتها أو مدنية هذه الآية أو أنها مما تأخر حكمه عن نزوله كآيات أخر وقول مجاهد نظر فيه إلى أن الفراغ أكثر ما يستعمل في الخلو عن الأشغال الدنيوية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «اغتنم فراغك قبل شغلك» وهو أضعف الأقوال لبعده عما يقتضيه السياق وتؤذن به الفاء وقال عصام الدين لا نسب ان يراد {فإذا فرغت} من يسر {فانصب} بعسر آخر طلبا لليسرين فإذا كنت كذلك فكن راغباً إلى ربك يعني لا تتحمل عسر الدنيا طمعاً في يسرين فيها بل تحمل عسر طلب الرب وقربه جل شأنه لليسرين انتهى.
ولعمري أنه خلاف ما يفهمه من لا سقم في ذهنه من اللفظ.
وأشعرت الآية بأن اللائق بحال العبد أن يستغرق أوقاته بالعبادة أو بأن يفرغ إلى العبادة بعد أن يفرغ من أمور دنياه على ما سمعت من قول مجاهد فيها وذكروا ان قعود الرجل فارغاً من غير شغل أو استغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أني لأكره أن أرى أحدكم فارغاً سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته.
وروي أن شريكاً مر برجلين يصطرعان فقال ما بهدا أمر الفارغ.
وقرأ أبو السمال {فرغت} بكسر الراء وهي لغة قال الزمخشري ليست بفصيحة.
وقرأ قوم {فانصب} بشد الباء مفتوحة من الانصباب والمراد فتوجه إلى عبادة أخرى كل التوجه.
ونسب إلى بعض الإمامية انه قرأ {فانصب} بكسر الصاد فقيل أي {فإذا فرغت} من النبوة {فانصب} عليا للإمامة وليس في الآية دليل على خصوصية المفعول فللسنى أن يقدره أبا بكر رضي الله تعالى عنه فإن احتج الإمامي بما وقع في غدير خم منع السني دلالته على ما ثبت عنده على النصب وصحته على ما يرويه الإمامي واحتج لما قدره بقوله صلى الله عليه وسلم: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وقال إنه أوفق بإذا فرغت لما أنه صدر منه عليه الصلاة والسلام في مرض وفاته قيل وفاته صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان في الغدير فإنه لا يظهر أن زمانه زمان فراغ من النبوة ظهور كون زمان الأمر كذلك وإن رجع وقال المراد {فإذا فرغت} من الحج {فانصب} علياً ورد عليه أمر مكية السورة مع ما لا يخفى.
وقال في الكشاف لو صح ذلك للرافضي لصح للناصبي أن يقرأ هكذا ويجعله أمراً بالنصب الذي هو بغض على كرم الله تعالى وجهه وعداوته وفيه نظر ومن الناس من قدر المفعول خليفة والأمر فيه هين وقال ابن عطية أن هذه القراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم.
وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة {فرغب} أمر من رغب بشد الغين أي فرغب الناس إلى طلب ما عنده عز وجل. اهـ.